الثلاثاء، 2 فبراير 2010

عمر بن الخطاب رضي الله عنه والقيادة


عمر بن الخطاب رضي الله عنه والقيادة

مقدمة
من خلال النظر والإستقراء في العصور السابقة واللاحقة لجوانب الإدارة والقيادة نجد أن غالباً ما تنجح تلك الإدارة وتكون قوية وفعالة حينما ترتكز على الحكمة في أمورها ؛ لأن الإدارة تتعامل مع بشر وليس مع مجموعة من التروس والآلات ، التعامل مع البشر لابد له حكمة وحنكة فكل نفس لها اسلوبها وطريقة للتعامل معها ، فرب كلمة صغيرة فعلت فعل السحر في نفس سامعها فدفعته إلى الأمام، وأيضًا رب كلمة فعلت في نفس سامعها فعل السحر فألقت به إلى الهاوية. والإدارة " فن قيادة الرجال " والرجال لهم مشارب شتى، ولا يستطيع أحد مهما أوتي من قوة أن يقودهم إلا بالحكمة، والحكمة أن تضع كل شيء في مكانه، الغضب والحزم والشدة في المواضع التي تحتاج إلى ذلك، واللين والتسامح والرحمة أيضًا في المواقف التي تتطلب ذلك.

ونحن في هذه اللمْحة المقتضبة نعرض لبعض الجوانب التنظيميَّة الإدارية، في عهْدِ الخليفة الراشِد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي قال عنه عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "كان إسلام عُمر فتْحًا، وهِجرته نصْرًا، وإمارته رحْمة".

وقد كان عمر رضي الله عنه حكيما بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، مما جعله مؤهلا لحمل هذه الأمانة العظيمة؛ وهي إدارة الدولة الإسلامية في هذا الوقت من التاريخ الإسلامي العظيم ، فقد كان ينهل من معين التعاليم الإسلامية الخالدة التي رباهم عليها المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه .

وفي عصر الفاروق رضي الله عنه شهد النظام الإداري نقلة حضارية كبرى تمثلت في مدى اهتمام الخليفة وعنايته الفائقة بالنظم الإدارية ، واستحداث أمور إدارية لم تكن في السابق فهذا دليل على التطور نحو الأفضل ومرونة النظام الإسلامي ، ففي عهده رضي الله عنه رسخت التقاليد الإدارية الإسلامية . يقول الطبري: في هذه السنة (15 هـ 636 م) فرض عمر للمسلمين الفروض ودَوَّن الدواوين ، وأعطى العطايا على السابقة. وهذا يؤكد مرونة العقلية الإسلامية وقبولها لتطوير نفسها، وتمثل هذا في اهتمام الفاروق رضي الله عنه بتنظيم الدولة الإسلامية إداريا، وخاصة أن الفتوحات الإسلامية قد أدت إلى امتداد رقعة الدولة الإسلامية في عهده، ففصل السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية، وأكد استقلال القضاء، كما اهتم بأمر الأمصار والأقاليم، ووطد العلاقة بين العاصمة المركزية والولاة والعمال في أجزاء الدولة الإسلامية.

وكان عمر رضي الله عنه شديدا مع عمال الدولة الإسلامية، كان يوصيهم بأهالي الأقاليم خيرا، فيروي الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوم الجمعة فقال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، إني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، وأن يقسموا فيهم فيئهم، وأن يعدلوا، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إلي. وقد حفظ لنا يحيى بن آدم (ثقة حافظ فاضل من كبار التاسعة مات سنة ثلاث ومائتين [ تقريب التهذيب جزء 1- صفحة 587]) وصية الفاروق رضي الله عنه للخليفة من بعده، تلك الوصية التي تلخص حرص إمام المسلمين على صالح الرعية ، يقول: (أوصي الخليفة من بعدي بأهل الأمصار خيرا فإنهم حياة المال، وغيظ العدو، وردء المسلمين، وأن يقسم بينهم فيئهم بالعدل، وألا يحمل من عندهم فضل إلا بطيب أنفسهم).

وكان رضي الله عنه إذا استعمل العمال على الأقاليم خرج معهم يشيعهم ويوصيهم فيقول: إني لم أستعملكم على أشعارهم ولا على أبشارهم، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بالعدل، وإني لم أسلطكم على أبشارهم ولا أشعارهم، ولا تجلدوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها، جردوا القرآن، وأقلوا من رواية محمد صلى الله عليه وسلم... وأنا شريككم.

وكان يقتص من عماله، فإذا شكا إليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه فإن صح عليه أمر يجب أَخْذه به أَخَذه به.

وروى الطبري أن الفاروق رضي الله عنه خطب الناس فقال: أيها الناس، إني والله ما أرسل عمالا ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقتصن منه، فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيته فأدب بعض رعيته، إنك لتقصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذا لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه.

وكان رضي الله عنه إذا استعمل عاملا كتب له عهدا وأشهد عليه رهطا من المهاجرين والأنصار، واشترط عليه ألا يركب برذوانا، ولا يأكل نقيا، ولا يلبس رقيقا، ولا يتخذ بابا دون حاجات الناس.

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من وضع التاريخ وكتبه وذلك في العام السادس عشر للهجرة، كما أنه أول من وضع تقليدا بتأريخ الكتب والرسائل وختم بالطين. وهو أول من جمع الناس على إمام لصلاة التراويح في شهر رمضان وكتب بذلك إلى البلدان، وكان في العام الرابع عشر، وكان أول من حمل الدرة وضرب بها تأديبا، ومن ذلك ما فعله مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان الفاروق يوزع مالا آتاه بين المسلمين، فرأى سعد يزاحم الناس حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدرة وقال: إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك.

وشهد عصره بالإضافة إلى ذلك تنظيمات إدارية متنوعة فوضع أساس بيت المال ونظم أموره، وكان يعس ليلا، ويرتاد منازل المسلمين، ويتفقد أحوالهم بيديه، وكان يراقب المدينة ويحرصها من اللصوص والسراق، كما كان يراقب أسواق المدينة ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم، وهو في هذا كله يتأسى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد كان يقول: القوة في العمل ألا تؤخر عمل اليوم إلى الغد، والأمانة ألا تخالف سريرة علانية، واتقو الله عز وجل فإنما التقوى بالتوقي ومن يتق الله يقه. (تاريخ النظم والحضارة الإسلامية د/ فتحية النبراوي)

وهكذا نرى هذه العقلية الإدارية الفذة والتي تعلمت الإدارة عمليًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس سيدنا عمر رضي الله عنه ممن يحبون الكلام وكثرته، بل إن شغلهم الشاغل إنما هو العمل النافع والتطبيق العملي واستثمار كل الطاقات البشرية الموجودة لديه في خدمة الإسلام وفي خدمة البشرية أيضا.


أقاليم الدولة الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه
عندما تولَّى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخلافة، اتَّسَعَتْ في عهْده الدولةُ الإسلامية، وذلك بتوسُّع الفُتُوحات؛ حيث تَمَّ فتْح العِراق، وفارس، والشام، ومصر، فتطلَّب منه الوضْع الجديدُ أن يضعَ نظامًا إداريًّا حقيقيًّا؛ يُعينُه في إدارة الدَّولة الواسعة، والإشراف على تنْظيمِ مواردِها، فعمل على تقسيم الدولة إلى ولايات؛ أهمها: "ولاية الأهْواز والبحرين - ولاية سجستان ومكران - ولاية طبرستان - ولاية خراسان - ولاية البصْرة - ولاية الكوفة - ولاية المَوْصل - ولاية حمْص - ولاية دِمَشْق - ولاية فِلَسْطين - ولاية مصر"

وقد ذكر [ د / علي الصلابي في كتابه – عمر بن الخطاب - ] يعتبر تقسيم الولايات في عهد الفاروق امتدادا في بعض نواحيه لما كانت عليه في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه إقليميا مع وجود بعض التغيرات في المناصب القيادية لهذه الولايات في كثير من الأحيان.
1- مكة المكرمة
2- المدينة المنورة
3- الطائف
4- اليمن
5- البحرين
6- ولايات الشام
7- ولايات العراق وفارس (البصرة- الكوفة- المدائن – أذربيجان)


الدواوين في عهد عمر رضي الله عنه
نشأت الدواوين في عهد الفاروق رضي الله عنه، وكان ذلك نتيجة لاتساع الدولة الإسلامية، واتصال المسلمين الفاتحين عن قرب بالأنظمة الفارسية والبيزنطية في الأقاليم والتعرف على حضارتها، فانتقوا من بين ذالك ما وجدوه ملائما للاقتباس، كما أبقوا على الكثير من الأنظمة الإدارية التي ثبت لهم صلاحيتها لتلك البلاد.

وقد اخْتُلف في تحديد نشأة الديوان؛ فيحدده الطبري بالعام الخامس عشر للهجرة، بينما يذكره الماوردي في الأحكام السلطانية في العام العشرين [ تاريخ النظم والحضارة الإسلامية فتحية النبراوي ]


تدوين الدواوين:
ترجع نشأة الدواوين إلى رواية أبي يوسف، التي تفيد أنه لما قدم أبو هريرة من البحرين ومعه خمسمائة ألف درهم، خطب عمر بن الخطاب الناسَ، وقال لهم: إنه قد جاء مال كثير، فإن شئتم أن نكيل لكم كِلْنا، وإن شئتم أن نعدَّ لكم عَدَدْنا، وإن شئتم أن نزن لكم وزنَّا لكم، فقال رجل من القوم: "يا أمير المؤمنين، دوِّن للناس دواوينَ يُعطون عليها، فدوَّن عمر الديوان".

ومن المعلوم أن عهْد عمر هو عهد الفُتُوحات، حيث كوَّن الجيوش، التي استطاع بها أن يفتح العراق وفارس والشام ومصر، ولضمان سير هذه الجيوش، وحرصًا على تجهيزها وتموينها؛ أنشأ ديوانَ الجند، الذي سجَّل فيه أسماء المقاتلين، ووجهتهم، ومقدار أعطياتهم وأرزاقهم.
وبسبب هذه الفتوح؛ فقد تدفَّقت الأموال على المسلمين، وكان لا بد لهذه الأموال من نظام يتحكَّم فيها، وينظم توزيعها، ويحفظ ما زاد منها؛ لذلك بدأَتِ التنظيمات الإسلامية تتبلْور؛ نتيجة الحاجة الماسَّة إليها، واتخذت نظمًا تنسجم مع واقع العرب والدين الإسلامي، فاستحدث ديوان بيت المال.

ومن هنا؛ ندرك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو أول مَن وضع أُسُس التنظيم الإداري للدولة الإسلامية، بإدخاله نظامَ الدواوين، وقد عبَّر الماوردي عن أهمية خطوة عمر في استحداث الديوان؛ لكونه موضعًا لحفظ ما يتعلق بحقوق الدولة من الأعمال والأموال، ومن يقوم بها من الجيوش والعمال.
وقد اهتمَّ عمر بالأموال الواردة للدولة، وكان حريصًا جدًّا على المحافظة عليها، وإعطائها لمستحقيها، وقد كان يتعامل معها كما يتعامل والي اليتيم مع ماله، فلا يأخذ منه إلا كما يأخذ أدنى رجل من المسلمين، ومما يروى عن نزاهة عمر وترفُّعه عن المال العام: ما رواه معيقيب، الذي كان يتولَّى بيت المال لعمر: "أنه كسح بيت المال يومًا، فوجد فيه درهمًا، فدفعه إلى ابنٍ لعمر، قال معيقيب: ثم انصرفتُ إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني، فجئت، فإذا الدرهم في يده، فقال: ويحك يا معيقيب، أوجدتَ عليَّ في نفسك سببًا؟! أو: مالي ومالك؟ فقلت: وما ذاك؟ قال: أردتَ أن تخاصمني أمَّةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا الدرهم يوم القيامة".

ومن الدواوين التي أوجدها عمر :

1- ديوان العطاء :
لما أراد الفاروق وضع الديوان فقد وضع أسسا للمفاضلة بين المسلمين في العطاء انطلاقا من أن من قاتل وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس كمن لم يقاتل أو تأخر، وفرض لأهل السوابق والقدم في الإسلام
(تاريخ النظم والحضارة الإسلامية د/ فتحية النبراوي)
ويذكر ابن سلام أن عمر حين أراد تدوين الدواوين قال: بمن نبدأ؟
قالوا: ابدأ بنفسك.
قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامنا، فبرهطه نبدأ ثم الأقرب فالأقرب، وكان هذا بعد أن فتح الله على المسلمين العراق والشام وجنى خراجها فقال: إني رأيت أن أفرض العطاء لأهله الذين افتتحوه (كتاب الأموال)

- أما الأسس التي وضعها عمر لترتيب أسماء الناس في الديوان فهي :
1- درجة النسب المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- السبق في الإسلام.
3- جهاده الأعداء، ومن كان من أهل بدر يتصدرون قائمة العطاء، ويليهم في المكانة من شهد المواقع إلى الحديبية، ثم من الحديبية إلى القضاء على المرتدين.
4- جعل أهل الفترة الواحدة طبقة واحدة في العطاء، بمعنى أن من شهد المواقع إلى الحديبية مثلا طبقة واحدة.
5- فضل أهل الحرب على قدر براعتهم في القتال.
6- البعد والقرب عن أرض العدو وفضل من قربت داره عن من بعدت داره عن العدو .

2- ديوان الجيش :
ارتبطت نشأة ديوان الجيش بتدوين الدواوين، أو تسجيل أسماء الجنود وذلك لمواجهة الزيادة التي طرأت على عدد الجنود، وضرورة إحصائهم، وترتيب أمورهم، وتوفير أعطياتهم، ومن أجل ذلك كان لا بد من تخصيص ديوان للجيش.
وهناك شروط لهذا الديوان:
أ- الوصف:
1- البلوغ. 2- الحرية. 3- الإسلام. 4- السلامة من الآفات.
5 - الإقدام على الحروب ومعرفة القتال.
ب- النسب والسبق في الإسلام:
يقوم بترتيب الأسماء في هذا الديوان على حسب القرب من رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم ترتيبهم الواحد بعد الواحد وفقا لسبقهم
في الإسلام، وإن تكافئوا فبالدين، فإن تكافئوا فبالسن فإن تقاربوا
فبالشجاعة في الحروب.
جـ- الكفاية:
وهو تقدير العطاء بالكفاية، والكفاية كما قول الماوردي لها أسس:
1- عدد من يعول من الذراري.
2- عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر.
3- الموضع الذي يحله من الغلاء والرخص.
4- ديوان الاستيفاء

الأصل في نشأة هذا الديوان هو حاجة الدولة إلى إحصاء خراج البلاد المفتوحة، وتنظيم الإنفاق في الوجوه التي يجب الإنفاق فيها، وقد وضحت أهمية هذا الديوان في الدولة الإسلامية، حين تعددت مصادر الدخل وزادت ثروة الدولة وتشعبت وجوه الإنفاق. [ تاريخ النظم والحضارة الإسلامية د/ فتحية النبراوي ]

كاتب الديوان :
وكاتب الديوان هو صاحب زمامه، يجب أن تتوفر فيه العدالة والكفاية وأما اختصاصاته فهي:
1- المعرفة الجيدة بالقوانين
2- استيفاء الحقوق.
3- إثبات الرفوع.
4- إخراج الأحوال؛ ويعني استشهاد صاحب الديوان على ما يثبت فيه من قوانين وحقوق.
5- تصفح الظلامات.
من كتاب (الأحكام السلطانية للماوردي)


فقه عمر بن الخطاب الإداري

من دلائل فقهه الإداري أنه كان يستفيد من كل الطاقات ويؤهلها لخدمة الإسلام:
فعن أسق قال: كنت عبدا نصرانيا لعمر، فقال: أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغى لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأعتقني لما حضرته الوفاة وقال: اذهب حيث شئت.

من فقهه الإداري رضي الله عنه تطبيق مبدأ الشورى :
كان عمر رضي الله عنه يستشير الرجال، وكان أيضا يستشير النساء، فقد كان يقدم الشفاء بنت عبد الله العدوية في الرأي، فماذا بقى بعد ذلك للمرأة حتى تبحث عنه في غير الإسلام، إذا كان أمير المؤمنين يستشيرها في أمور الدولة، ويرضى عن رأيها، وكان رضي الله عنه يعتبر نفسه أبا العيال فيمشي إلى المغيبات اللواتي غاب أزواجهن، فيقف على أبوابهن ويقول: ألكن حاجة؟ وأيتكن تريد أن تشتري شيئًا؟ فإني أكره أن تخدعن في البيع والشراء، فيرسلن معه بجواريهن، فيدخل السوق، ووراءه من جواري النساء وغلمانهن ما لا يحصى، فيشتري لهن حوائجهن ومن ليس عندها شيء اشترى لها من عنده، وإذا قدم يقول: أزواجكن في سبيل الله، وأنتن في بلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان عندكن من يقرأ، وإلا فاقربن من الأبواب حتى اقرأ لَكُنَّ... ويقول لهن : هذه دواة وقرطاس فادنين من الأبواب، حتى اكتب لَكُنّ، ويمر إلى المغيبات، فيأخذ كتبهن فيبعث بها إلى أزواجهن.

من فقهه الإداري رضي الله عنه تطبيق مبدأ المتابعة الشخصية للمجتمع :
من سمات وخصائص الجانب الإداري عند سيدنا عمر بن الخطاب أنه كان دقيق المتابعة للولاة، والمتابعة هي عنصر هام جدا في نجاح أي خطة، وهكذا كان عمر رضي الله عنه .
" عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ما زلت أسمع حديث عمر بن الخطاب أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيرا إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة عليها بابها وهي تقول :

تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ تَسْرِي كَوَاكِبُهُ وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا ضَجِيعٌ أُلَاعِبُهُ
أُلَاعِبُهُ طَوْرًا وَطَوْرًا كَأَنَّمَا بَدَا قَمَرًا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حَاجِبُهُ
يُسَرُّ بِهِ مَنْ كَانَ يَلْهُو بِقُرْبِهِ لَطِيفُ الْحَشَا لَا تَحْتَوِيهِ أَقَارِبُهُ
فَواللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرَهَ لَنُفِضَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ
وَلَكِنَّنِي أَخْشَى رَقِيبًا مُوَكَّلًا... بَأَنْفُسِنَا لَا يُفَتِرُّ الدَّهْرُ كَاتِبُهُ



ثم تنفست الصعداء وقالت: لهان على عمر بن الخطاب وحشتي وغيبة زوجي عني. وعمر واقف يستمع قولها، فقال لها: يرحمك الله، يرحمك الله، ثم وجه إليها بكسوة، ونفقة، وكتب في أن يقدم عليها زوجها . (ذم الهوى جزء 1- صفحة 283)

إذن فهو رضي الله عنه يسن القوانين بعد التعايش الحقيقي مع المجتمع، ومعرفة مشاكله وهمومه من خلال التعامل مع الواقع مباشرة، وليس عن طريق التقارير التي ترد إليه فحسب، ولو كان فعل ذلك ما لامه أحد لحسن اختياره للولاة، ومع ذلك فهو لم يعتمد على ما يرد إليه من تقارير فحسب، بل كان كما نرى يتابع الأمور بنفسه.

المتابعة الإدارية العمرية
لم يكن عمر يكتفي بأن يحسن اختيار عماله، بل كان يبذل أقصى الجهد لمتابعتهم بعد أن يتولوا أعمالهم ليطمئن على حسن سيرتهم ومخافة أن تنحرف بهم نفوسهم، وكان شعاره لهم: خير لي أن أعزل كل يوم واليا من أن أبقي ظالمًا ساعة نهار. وقال: أيما عامل لى ظلم أحدا فبلغنى مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته. وقال يوما لمن حوله: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما علي؟ فقالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا؟ وقد سار رضي الله عنه بحزم في رقابته الإدارية لعماله وتابعهم بدقة، وكانت طريقة عمر في الإدارة إطلاق الحرية للعامل في الشئون المحلية، وتقييده في المسائل العامة، ومراقبته في سلوكه وتصرفاته، وكان له جهاز سرى مربوط به لمراقبة أحوال الولاة والرعية، وقد بينت لنا المصادر التاريخية أنه يشبه اليوم (المخابرات) ويمكن هنا أن نقول: إن المخابرات في عهد عمر بن الخطاب كان هدفها الأول والأخير توفير الأمن والحماية للدولة الإسلامية، وليس التجسس على عورات الناس وبث الرعب في نفوسهم كما هو الحاصل في كثير من الأنظمة التي تحكم الناس اليوم، ومن أهدافها أيضا المتابعة الدقيقة للولاة فقد كان علمه بمن نأى عنه من عماله كمن بات معه في مهاد واحد، وعلى وساد واحد، فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب تكاد تكون عنده في كل مساء ومصبح ، وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الناس إليه وأخصهم، وكانت وسائل عمر في متابعته لعماله متعددة ومنها:

[1] طلبه من الولاة دخول المدينة نهارًا:

كان رضي الله عنه يطلب من ولاته دخول المدينة نهارًا، ولا يدخلوها بالليل حتى يظهر ما يكون قد جاءوا به من أموال ومغانم فيسهل السؤال والحساب.

[2] طلب الوفود من الولاة :

كان عمر يطلب من الولاة أن يرسلوا وفدًا من أهل البلاد ليسألهم عن بلادهم، عن الخراج المفروض عليهم ليـتأكد بذلك من عدم ظلمهم، ويطلب شهادتهم فكان يخرج إليه مع خراج الكوفة عشرة من أهلها، ومع خراج البصرة مثلهم، فإذا حضروا أمامه شهدوا بالله أنه مال طيب ما فيه ظلم مسلم ولامعاهد وكان هذا الإجراء كفيلًا بمنع الولاة من ظلم الناس إذ لو حدث هذا لرفعه هؤلاء الموفدون إلى أمير المؤمنين وأخبروه به، كما أن عمر في الغالب كان يقوم بمناقشة هؤلاء الموفدين وسؤالهم عن بلادهم، وعن ولاتهم وسلوكهم معهم.

[3] فتح المجال للعامة لإرسال رسائل البريد إلى الخليفة مباشرة :

كان عمر رضي الله عنه يرسل البريد إلى الولاة في الأمصار فقد كان يأمر عامل البريد العودة إلى المدينة أن ينادى في الناس من الذي يريد إرسال رسالة إلى أمير المؤمنين؟ حتى يحملها إليه دون تدخل من والى البلد، وكان صاحب البريد نفسه لا يعلم شيئًا من هذه الرسائل، وبالتالي يكون المجال مفتوحًا أمام الناس لرفع أي شكوى أو مظلمة إلى عمر نفسه دون أن يعلم الوالي أو رجاله بذلك، وحينما يصل حامل الرسائل إلى عمر ينثر ما معه من صحف، ويقرأها عمر ويرى ما فيها.
وكان الفاروق رضي الله عنه يستعين بمحمد بن مسلمة الأنصاري في متابعة الولاة، ومحاسبتهم، والتأكد من الشكاوي التي تأتي ضدهم، فكان موقع محمد بن مسلمة كالمفتش العام في دولة الخلافة.

[4] وفود الحج فرصة للسّؤال عن الأمراء :

كان موسم الحج فرصة لعمر ليستقي أخبار رعيته وولاته، فجعله موسمًا للمراجعة والمحاسبة، واستطلاع آراء الرعية في ولاتهم، فيجتمع فيه أصحاب الشكايات والمظالم، والرقباء الذي كان عمر يبثهم في أرجاء دولته لمراقبة العمال والولاة، ويأتي العمال أنفسهم لتقديم كشف الحساب عن أعمالهم، فكان موسم الحج ( جمعية عمومية ) كأرقى ما تكون الجمعيات العمومية في عصر من العصور.

[5] جولة تفتيشية حول الأقاليم :

كان تفكير عمر قبل مقتله أن يجول على الولايات شخصيًا لمراقبة العمال، لتفقد أحوال الرعية، والاطمئنان على أحوال الدولة المترامية الأطراف، وقال: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولًا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا.
ولم يكتف الفاروق بالمراقبة عن طريق هذه الزيارات، بل عمد إلى طريقة أخرى، وهي إرسال كميات من الأموال إلى الولاة، وإرسال من يراقبهم حتى يعرف كيف تصرفوا فيها.

[6] إرسال الوفود الرسميين إلى الأمراء :

كذلك كان لعمر مُفوَّضون رسميُّون يسافِرُون إلى الأمصار، ويراجعون أعمال الوُلاة، وكان من أطهر هؤلاء المفتِّشين محمدُ بن سلمة، وهو رجلٌ حازم فائق الأمانة.

سياسة عمر مع الولاة

وكان عمر يختار لكلِّ إقليم واليًا، وكان يختارهم ممن يَتَوَسَّم فيهم الصلاح والمقْدرة على إدارة شؤون الولاية، والقِيام بالمهام المُلْقاة على عواتقِهم।
وكان مِن مهام الوالي: إمامة الناس في الصلاة، والقضاء بينهم بالحقِّ، وتقْسيم الغنائم والعُشُور، وجَمْع الزكاة والجِزْية والخَرَاج.

- أمر الولاة بالرفق والإحسان إلى الرعية :
وكان عمر يوصِي أولئك الوُلاةَ بحُسْن معامَلة الرعية، والرِّفْق بهم، وعدم تكْليفهم فوق طاقتهم، ويحملهم مسؤولية تطْبيق شرائع الإسلام وسُننه؛ فقال مُوَضِّحًا واجباتِهم: "أيُّها الناس، إنِّي والله ما أرسل إليكم عمَّالاً ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أعْشاركم؛ ولكن أرسلهم ليعلِّموكم دينكم وسُننكم، فمَن فُعل به شيءٌ سوى ذلك، فليرفعه إليَّ، فوالَّذي نفس عمر بيده، لأقتصّنَّ له منه".

- منع التطاول على الولاة من غير حق :
وإذا كان عمر - رضي الله عنه - لا يرضيه ظُلْم العمَّال للرعية، فإنه كذلك يكْرَه أن يتطاوَل أحدٌ من الرَّعيَّة على العمَّال، "فهو حينما شكا إليه أهلُ الكوفة سعدَ بن أبي وقاص، وطَلَبَ وفْدٌ منهم عَزْلَه، قال: مَن يعذِرني مِن أهل الكوفة؟ إن ولَّيتُهم التَّقيَّ ضعَّفوه، وإن وليتهم القوي فجَّروه، فقال له المُغِيرة بن شُعبة: يا أمير المؤمنين، إنَّ التَّقيَّ الضعيف له تقْواه ولك ضعْفه، وإنَّ القويَّ الفاجِر لك قوته وعليه فُجُوره، فقال عمر: صدقْتَ،" وولاه الكوفة.

- المحاسبة :
كان عمر - رضي الله عنه - يتابِع ولاته متابَعةً دقيقة، تنمُّ عن حرْصٍ على المصالِح العامة للمسلمين، فكان إذا وفدتْ عليه وُفُود الحجيج، سألَهم عن أحوال أمرائِهم وسيرتهم فيهم، فكان مما يقول لهم: "هل يعود مرْضاكم؟ هل يعول العبيد؟ كيف صنيعه بالضعيف؟ وهل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصْلة منها: لا، عَزَلَهُ" ، كما كان يسأل القُضاة ويستحلفهم عن مدى تطْبيق الوالي للعدْل.

- الرواتب :
وحرصًا منه - رضي الله عنه - على استقرار الوُلاة، وعدم انشغالهم بأمْرٍ غير الولاية؛ فقد أجْرى عليهم مرتباتٍ من شأنِها أن تعينَهم على التفرُّغ لعَمَلِهم المنوط بهم، ومثال ذلك: أنه أجْرى على عمار - والي الكوفة - ستمائة درهم، له ولكاتبه ومؤذِّنيه كلَّ شهر، وأجْرى على عثمان بن حنيف رُبع شاة وخمسة دراهم كل يوم، مع عطائه - وكان خمسةَ آلاف درهم - وأجْرى على عبدالله بن مسعود مائة درهم في كل شهر وربع شاة كل يوم.


- سياسة عمر في عزل الولاة :
عزل سعد بن أبي وقاص :
اجتمع نفر من أهل الكوفة بزعامة الجراح بن سنان الأسدي فشكوا أميرهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر، وذلك في حال اجتماع المجوس في نهاوند لغزو المسلمين، فلم يشغلهم ما داهم المسلمين في ذلك، ولقد كان سعد عادلًا رحيمًا بالرعية، قويًا حازمًا على أهل الباطل والشقاق، عطوفًا على أهل الحق والطاعة، ومع ذلك شكاه هؤلاء القوم ممن لا يطيقون حكم الحق، ويريدون أن يحققوا شيئًا من أهوائهم، وقد وقتوا لشكواهم وقتًا رأوا أنه أدعى لسماع أمير المؤمنين منهم حيث إن المسلمين مُقْبلون على معركة مصيرية تستدعي اتفاق الكلمة ، وقد استجاب أمير المؤمنين لطلبهم في التحقيق في أمر شكواهم مع علمه بأنهم أهل هوى وشر، فبعث عمر رضي الله عنه محمد بن مسلمة ليتأكد من دعاوي الشاكين، وفي هذا بيان لمنهج الصحابة رضي الله عنه في التحقيق في قضايا الخلاف التي تجري بين المسؤلين ومن تحت ولايتهم.
وعزل عمر رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه درءًا للفتن وإماتتها وهي في مهدها قبل أن تستفحل، فتسبب الشقاق والفرقة وربما القتال.
هذا وقد استبقى عمر سعدًا رضي الله عنه في المدينة وأقر من استخلفه سعد على الكوفة بعده، وصار سعدًا من مستشاري عمر في المدينة، ثم جعله من الستة المرشحين للخلافة حين طعن، ثم أوصى الخليفة من بعده بأن يستعمل سعدًا وقال: فإني لم أعزله عن سوء، وقد خشيت أن يلحقه من ذلك.

- عزل خالد بن الوليد :
وجد أعداء الإسلام في سعة خيالهم وشدة حقدهم مجالًا واسعًا لتصيد الروايات التي تظهر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مظهرمشين، فإذا لم يجدوا شفاء نفوسهم، اختلقوا ما ظنوه يجوز على عقول القارئين، لكي يصبح أساسًا ثابتًا لما يتناقله الرواة، وتسطره كتب المؤلفين، وقد تعرض عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما لمفتريات أعداء الإسلام، الذين حاولوا تشويه صفحات تاريخنا المجيد، ووقفوا كثيرًا عند أسباب عزل عمر لخالد بن الوليد رضي الله عنهما وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين، وأتوا بروايات لا تقوم على أساس عند المناقشة، ولا تقوم على برهان أمام التحقيق العلمي النزيه.
عزل عمر رضي الله عنه خالدًا في المرة الأولى عن القيادة العامة، وإمارة الأمراء في الشام، وكانت هذه المرة في السنة الثالثة عشرة من الهجرة غداة تولي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكرالصديق رضي الله عنه.
وفي " قنسرين " من قرى بلاد شمال الشام جاء العزل الثاني لخالد وذلك في السنة السابعة عشرة من الهجرة، ومجمل أسباب العزل فيما يلي:
أ‌- حماية التوحيد:
ففي قول عمر رضي الله عنه: ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به. يظهر خشية عمر رضي الله عنه من فتنة الناس بخالد، وظنهم أن النصر يسير في ركاب خالد، فيضعف اليقين أن النصر من عند الله، سواء أكان خالدًا على رأس الجيش أم لا.
وعن ذلك يقول حافظ إبراهيم: في تخوف عمر :

وَقِيلَ خَالَفْتَ يَا فَارُوقُ صَاحِبَنَا فِيهِ وَقَدْ كَانَ أَعْطَى الْقَوْسَ بَارِيهَا
فَقَدْ خِفْتَ افْتِتَانَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ وَفِتْنَةُ النَّفْسِ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا .

ب‌- اختلاف النظر في صرف المال :
كان عمر رضي الله عنه يرى أن فترة تأليف القلوب، وإغراء ضعاف العقيدة بالمال والعطاء قد انتهت، وصار الإسلام في غير حاجة إلى هؤلاء، وأنه يجب أن يوكل الناس إلى إيمانهم.
بينما يرى خالد بن الوليد أن من معه من ذوي البأس والمجاهدين في ميدانه، ممن لم تخلص نياتهم لمحض ثواب الله، أمثال هؤلاء في حاجة إلى من يقوي عزيمتهم، ويثير حماستهم من هذا المال.
ولا شك أن عمر وخالدًا اجتهدا فيما ذهبا إليه ولكن عمر أدرك أمورًا لم يدركها خالد رضي الله عنهما.
جـ - اختلاف منهج عمر عن منهج خالد في السياسة العامة :
فقد كان عمر يصر على أن يستأذن الولاة منه في كل صغيرة وكبيرة ، بينما يرى خالد أن من حقه أن يعطي الحرية كاملة من غير الرجوع لأحد في الميدان الجهادي، وتطلق يده في كل التصرفات إيمانًا منه بأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
ولعل من الأسباب التي دعت عمر إلى عزل خالد أيضًا، إفساح المجال لطلائع جديدة من القيادات ، حتى تتوافر في المسلمين نماذج كثيرة أمثال خالد، والمثنى وعمرو بن العاص، ثم ليدرك الناس أن النصر ليس رهنًا برجل واحد مهما كان هذا الرجل.

شروط عمر رضي الله عنه في أخيار الولاة

لم يكن ينظر إلى صلاح الرجل في ذاته، ولكن إلى صلاحه للولاية، لذلك كان يولي أناسًا وأمامه من هو أتقى منهم وأكثر علمًا. وأشد عبادة، وكان يقول: إني لأتحرج أن استعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه. وكان يستعمل رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، ويدع من هو أفضل منهم مثل عثمان بن عفان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، ونظرائهم لقوة أولئك على العمل والبصر به، ولإشراف عمر عليهم وهيبتهم له.

قال عمر يوما لأصحابه :
دلوني على رجل استعمله على أمر قد أهمني. قالوا: فلان.
قال: لا حاجة لنا فيه، قالوا: من تريد؟ قال: أريد رجلًا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإن كان أميرهم كان كأنه رجل منهم.
قالوا: ما نعرف هذه الصفة إلا في الربيع بن زياد الحارثي.
قال: صدقتم. فولاه.

المشورة في اختيار الولاة

كان اختيار الولاة يتم بعد مشاورة الخليفة لكبار الصحابة، استشار عمر رضي الله عنه الصحابة فيمن يولى على الكوفة فقال لهم:
من يعذرني من أهل الكوفة من تجنيهم على أمرائهم إن استعملت عليهم لينًا استضعفوه، وإن استعملت عليهم شديدًا شكوه، ثم قال: يا أيها الناس ماتقولون في رجل ضعيف غير أنه مسلم تقي، وآخر قوي مشدد أيهما الأصلح للإمارة؟ فتكلم المغيرة بن شعبة فقال: يا أمير المؤمنين إن الضعيف المسلم إسلامه لنفسه وضعفه عليك وعلى المسلمين، والقوى المشدد فشداده على نفسه وقوته لك وللمسلمين فأعمل في ذلك رأيك، فقال عمر: صدقت يا مغيرة، ثم ولاه الكوفة وقال له: انظر أن تكون ممن يأمنه الأبرار ويخافه الفجار، فقال المغيرة: أفعل ذلك يا أمير المؤمنين.

اختبار العمال قبل التولية

كان عمر رضي الله عنه يختبرعماله قبل أن يوليهم، وقد يطول هذا الاختبار كما يوضحه الأحنف بن قيس حين قال: قدمت على عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، فاحتبسني عنده حولًا فقال: يا أحنف قد بلوتك وخبرتك، فرأيت أن علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، وإنا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم. ثم قال له عمر: أتدرى لم احتبستك؟ وبين له أنه أراد اختباره ثم ولاّه، ومن نصائح عمر للأحنف: يا أحنف، من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شىء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.
المرسوم الخلافي

وقد اشتهر عن عمر رضي الله عنه أنه حينما كان ينتهي من اختيار الوالى واستشارة المستشارين يكتب للوالى كتابا يسمى عهد التعيين أو الاستعمال عند كثير من المؤرخين ويمكننا أن نسميه مجازًا (المرسوم الخلافى) في تعيين العامل أو الأمير، وقد وردت العديد من نصوص التعيين لعمال عمر، ولكن المؤرخين يكادون يتفقون على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا استعمل عاملًا كتب له كتابا وأشهد عليه رهطا من المهاجرين والأ نصار، واشترط عليه شروطا في الكتاب، وقد يكون الشخص المرشح للولاية غائبا، فيكتب له عمر عهدا يأمره فيه بالتوجه إلى ولايته، ومثال ذلك كتابه إلى العلاء الحضرمى عامله على البحرين أمره بالتوجه إلى البصرة لولايتها بعد عتبة بن غزوان، وفي حال عزل أمير وتعيين آخر مكانه، فإن الوالى الجديد كان يحمل خطابا يتضمن عزل الأول وتعيينه مكانه، وذلك مثل كتاب عمر مع أبى موسى الأ شعرى حين عزل المغيرة بن شعبة عن ولاية البصرة وعيّن أبا موسى مكانه.

مميزات الوالي وصفاته التي أختار عمر ولاته على ضوئها :

أمر عمر رضي الله عنه بكتابة عهد لرجل قد ولاه، فبينما الكاتب يكتب جاء صبي فجلس في حجر عمر فلاطفه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين لي عشرة من الأبناء ما دنا أحد منهم مني قال عمر: فما ذنبي إن كان الله عز وجل نزع الرحمة من قلبك، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، ثم قال: مزق الكتاب، فإنه إذا لم يرحم أولاده فكيف يرحم الرعية.

قواعد عمر في تعينن الولاة وشروطه عليهم

1- القوة والأمانة :
وقد طبق الفاروق رضي الله عنه هذه القاعدة، ورجح الأقوى من الرجال على القوي، فقد عزل عمرُ شرحبيلَ بن حسنة وعيّن بدله معاوية،
فقال له شرحبيل: أمن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكني أريد رجلًا أقوى من رجل.
ومن أجمل ما أُثر عن عمر في هذا المعنى قوله: اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة.

2- مقام العلم في التولية :
وقد جرى عمر الفاروق رضي الله عنه على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تولية أمراء الجيوش خاصة. قال الطبري: إن أمير المؤمنين كان إذا اجتمع إليه جيش من أهل الإيمان أمّر عليهم رجلًا من أهل الفقه والعلم.
وكان عمر يستعمل قومًا ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل، وكان التفضيل هنا إنما يعني أن أولئك الذين تركهم عمر كانوا أفضل دينًا، وأكثر ورعًا، وأكرم أخلاقًا ولكن خبرتهم في تصريف الأمور أقل من غيرهم، فليس من الضروري أن يجتمع الأمران كلاهما معًا، وهذه القاعدة التي وضعها عمر، ما زالت متبعة حتى اليوم في أرقى الدول، ذلك بأن المتدين الورع الخلوق إذا لم تكن له بصيرة في شئون الحكم، قد يكون عرضة لخديعة أصحاب الأهواء المضللين، أما المحنك المجرب، فإنه يعرف من النظرة السريعة، معاني الألفاظ وما وراء الألفاظ من معان، وهذا هو السبب الذي دعا عمر بن الخطاب لاستبعاد رجل لا يعرف الشر، فقد سأل عن رجل أراد أن يوليه عملًا فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه لا يعرف الشر. فقال عمر لمخاطبه: ويحك ذلك أدنى أن يقع فيه. وهذا لا يعني أن يكون العامل غير متصف بالقوة والأمانة والعلم والكفاية وغيرها من الصفات التي يستلزمها منطق الحكم والإدارة، وإنما يقع التفاضل بين هذه الصفات، ويكون الرجحان لما سماه عمر بن الخطاب: البصر بالعمل.

3- أهل الوبر وأهل المدر :
جعل الوالى من القوم.
من الملاحظ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في كثير من الأحيان يولى بعض الناس على قومهم، إذا رأى في ذلك مصلحة، ورأى الرجل جديرا بالولاية، ومن ذلك توليته جابر بن عبد الله البجلي على قومه بجيلة، حينما وجههم إلى العراق، وكذلك تولية سلمان الفارسى على المدائن، وتولية نافع بن الحارث على مكة، وعثمان بن أبى العاص على الطائف، ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى أهداف معينة يستطيع تحقيقها ذلك الشخص أكثر من غيره.

فكان عمر ينظر حين يعيّن أحد عماله، إلى بعض الخصائص والطباع والعادات، والأعراف، فلقد عُرف أنه كان ينهي عن استعمال رجل من أهل الوبر على أهل المدر، وأهل الوبر هم ساكنوا الخيام، وأهل المدر هم ساكنوا المدن، وهذه نظرة دقيقة في اختيار الموظفين، فلكل من أهل الوبر والمدر خصائص وأخلاق وعادات وأعراف مختلفة، ومن الطبيعي أن يكون الوالي عارفًا بنفسية الرعية، وليس من العدل أن يتولى أمرها رجل جاهل بها، فقد يرى العرف نكرًا، وقد يرى الطبيعي غريبًا، فيؤدي ذلك إلى غير ما يتوخاه المجتمع من أهداف يسعى إلى تحقيقها.

4- الرحمة والشفقة على الرعية :
كان عمر رضي الله عنه يتوخى في ولاته الرحمة والشفقة على الرعية، وكم من مرة أمر قادته في الجهاد ألا يغزو بالمسلمين، ولا ينزلوهم منزل هلكة .

وخطب عمر ولاته فقال: اعلموا أنه لا حلم أحب إلى الله تعالى، ولا أعم من حلم إمام ورفيقه، وأنه ليس أبغض إلى الله ولا أعم من جهل إمام وخرقه، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهرانيه يرزق العافية فيمن هو دونه.

5- لا يولي أحدًا من أقاربه :
كان عمر رضي الله عنه حريصًا على أن لا يولي أحدًا من أقاربه رغم كفاية بعضهم، وسبقه إلى الإسلام مثل سعيد بن زيد ابن عمه، وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجل من أصحابه يشكو إعضال أهل الكوفة به في أمر ولاتهم، ويقول عمر: لوددت أني وجدت رجلًا قويًا، أمينًا مسلمًا استعمله عليهم، فقال الرجل: أنا والله أدلك عليه، عبد الله بن عمر، فقال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا. ويقول: من استعمل رجلًا لمودة أو قرابة لا يشغله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله.

6- لا يعطي من طلبها :
كان لا يولي عملًا لرجل يطلبه، وأراد أن يستعمل رجلًا فبدر الرجل بطلب العمل، فقال له: قد كنا أردناك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
وقد سار على هذا النهج اقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

7- منع العمال من مزاولة التجارة، وإحصاء ثرواتهم عند تعيينهم:
كان عمر رضي الله عنه يمنع عماله وولاته من الدخول في الصفقات العامة سواء أكانوا بائعين أو مشترين، وكان عمر رضي الله عنه يحصي أموال العمال والولاة ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية مما لا يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه وكان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارًا. وروى أن عاملًا لعمر بن الخطاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثراء، فسأله عمر عن مصدر ثرائه فأجاب: خرجت بنفقة معي فاتجرت بها، فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتّجروا، وأخذ منه ما حصل عليه من ربح.

8- الكتابة والاستشهاد على الوالي :
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا استعمل عاملًا كتب عليه كتابًا، وأشهد عليه رهطًا من الأنصار: أن لا يركب برذونًا، ولا يأكل نقيًا، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين، ثم يقول: اللهم فاشهد.
وهذه الشروط تعني الالتزام بحياة الزهد، والتواضع للناس، هي خطوة أولى في إصلاح الأمة بحملها على التوسط في المعيشة، واللباس والمركب فهذه الحياة التي تقوم على الاعتدال حتى تستقيم أمورها، وهي خطة حكيمة، فإن عمر لا يستطيع أن يلزم جميع أفراد الأمة بأمر لا يعتبر واجبا في الإسلام، ولكنه يستطيع أن يلزم بذلك الولاة والقادة، وإذا التزموا فإنهم القدوة الأولى في المجتمع وهي خطة ناجحة في إصلاح المجتمع وحمايته من أسباب الانهيار.


إن رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن دستور للقضاء والمتقاضين، وهي أكمل ما وصلت إليه قوانين المرافعات الوضعية، وقوانين استقلال القضاة. [المستشار علي علي منصور ]

الاجتهاد والإدارة
" وكان الاجتهاد من أبرز الجوانب في حياة عمر خلال حقبة خلافته الحافلة بالأحداث، فحفظ الدين، ورفع راية الجهاد، وفتح البلاد، ونشر العدل بين العباد، وأنشأ أول وزارة مالية في الإسلام، وكون جيشًا نظاميًا للدفاع وحماية الحدود، ونظم المرتبات والأرزاق، ودوّن الدواوين، وعيّن الولاة والعمال والقضاة، وأقر النقود للتداول الحياتي، ورتب البريد، وأنشأ نظام الحسبة، وثبت التأريخ الهجري، وأبقى الأرض المفتوحة دون قسمة، وخطط المدن الإسلامية وبناها، فهو بحق أمير المؤمنين، وباني الدولة الإسلامية " [ الدكتور أحمد شلبي ]


اجتهاد عمر في التشريع

جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أبي بكر الصديق، وواصلت جيوش المسلمين زحفها، ففتحت بلاد فارس والشام ومصر من بلاد الروم، وكثرت الغنائم وواجه عمر مشكلات جديدة في إرسال الجيوش، وإمدادها وتنظيم الجند وحكم البلاد التي تفتح بحكم الله، وكلما أمعن المسلمون في الغزو وأبعدوا في الأرض كثرت المشكلات التي تواجههم، وقد وُفّق الفاروق لحل هذه المشكلات وتدبير أمور الدولة في حكم الأقطار البعيدة عنه، والقريبة منه توفيقًا كبيرا، وظلت حياة المسلمين مستقيمة في حياة عمر استقامتها في حياة أبي بكر الصديق، فكلاهما ساس الناس كما كان يسوسهم الرسول صلى الله عليه وسلم، والتزم الفاروق بالقرآن الكريم وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أبي بكر ومشورة الصحابة في حل ما عرض له من مشكلات التي نشأت عن طريق الفتوح، فكلما طرأت له مشكلة وجد حلها في كتاب الله عز وجل، فإن لم يجد ففي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد ففي سيرة أبي بكر الصديق، فإن لم يجد دعا أولي الأمر والرأي من المهاجرين والأنصار فشاورهم حتى يجد الحل للمشكلة، أو المشكلات التي عرضت له.

من يستشعر المسئولية لا ينام :
" عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن له وقت ينام فيه فكان ينعس وهو قاعد فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا تنام؟ فقال: كيف أنام إن نمت بالنهار ضيعت أمور المسلمين وإن نمت بالليل ضيعت حظي من الله عز وجل " (صفة الصفوة جزء 2- صفحة 382).


المركزية واللامركزية في الإدارة العمرية


يمكن القول - بصفة عامة -: أن المركزية تعني: قيام الحكومة المركزية وحدها بالوظيفة الإدارية، دون مشاطرة الهيئات الأخرى لها في ذلك.

وقد وصف أحد الكُتاب عهد عمر بن الخطاب بالمركزية في الإدارة، فقال: "لقد فرضتْ ظروف الدولة الإسلامية في عهد عمر أسلوبَ المركزية في الحكم؛ بل إن عمر قد سلك أسلوبًا مركزيًّا متطرِّفًا، لا نكاد نجد له مثيلاً في التاريخ".

ثم بعد أن أورد نصوصًا من كتب عمر بن الخطاب إلى قوَّاد الجيوش، ينصح لهم ويوجههم، قال: "ولم تقف هيمنة عمر في العاصمة على الأمور العسكرية؛ بل امتدَّت إلى الشؤون المدنيَّة، ومن ذلك استئذان المسلمين الخليفةَ في طريقة بناء المساكن في المدن الجديدة، وحرص الخليفة على أن يُحاط علمًا بأقاليم الدولة التي لم يذهب إليها".

وقد ردَّ عليه الدكتور القطب محمد طباية، بعد أن أوْرد أقواله تلك، في كتابه "نظام الإدارة في الإسلام"، فقال: "إنه إذا كانت كتب السيرة والتاريخ قد حفظتْ لنا مثل هذه الكتب، التي يوجِّه بها عمر عمَّاله وقُواده، ويتابع أعمالهم - فإنها قد حفظت لنا كذلك آثارًا يفوِّض فيها عمرُ الرأيَ لعمَّاله وقواده؛ لكي يتصرفوا في مواجهة المواقف، بما تقتضيه هذه المواقف.

ومن ذلك قوله لمحمد بن سلمة: "إن أكمل الرجال رأيًا مَن إذا لم يكن عنده عهْد من صاحبه، عمل بالحزم، أو قال به"، وقوله لمعاوية بن أبي سفيان حين بيَّن له أسباب اتِّخاذه مظاهرَ الملك: "لا آمرك ولا أنهاك"، وردُّه على أبي عبيدة حين استشاره في دخول الدروب خلف العدو بقوله: "أنت الشاهد وأنا الغائب، وأنت بحضرة عدوِّك، وعيونُك يأتونك بالأخبار"، إلى غير ذلك من النصوص التي تدلُّ على أن عمر بن الخطاب كان ينتهج المنهج اللامركزي في الإدارة، وليس معنى ذلك أنه قد رفع يده كلية عن الولايات الأخرى؛ بل إن من حقه وواجبه الإشرافَ على هذه الولايات ومراقبتها في الحدود الشرعية".
ولعل ما ذهب إليه الدكتور طباية هو الصحيح، خصوصًا إذا عرفنا أنه من الصعب جدًّا الرجوع إلى الخليفة في كل صغيرة وكبيرة في دولة مترامية الأطراف، وفي زمن لم تتقدم فيه وسائل النقل والمواصلات،

القضاء في عهْد عمر

أنزل الله القرآن على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - متضمنًا الشرائعَ والأحكام، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يتولَّى الفصل بين الناس، وتطبيق الحدود والأحكام، كما أنه استعان ببعض أصحابه في ذلك، فبعث معاذًا إلى اليمن قاضيًا ومعلِّمًا، وكذلك بعث عليًّا - رضي الله عنهما.

ولما تولَّى عمر بن الخطاب، وتوسَّعَتِ الدولة في عهْده، واختلط العربُ بسكان البلاد المفتوحة، وازدادَتِ القضايا في هذه الأمصار - تعذَّر على الخليفة النظرُ فيها، وكذلك الولاة، فعمل عمر بن الخطاب على فصل القضاء عن الولاية، وشرع في تعيين القضاة في البلاد المفتوحة، فولَّى أبا الدرداء قضاءَ المدينة، وشريحًا الكندي قضاء الكوفة، وعثمانَ بن أبي العاص قضاء مصر، وأبا موسى الأشعري قضاء البصرة.

وقد أجرى عمر - رضي الله عنه - عليهم الرواتب، فجعل للقاضي سليمان بن ربيعة خمسمائة درهم في كل شهر، وجعل لشريح مائةَ درهم ومؤْنته من الحنطة.
وكان - رضي الله عنه - يتعهَّد الولاة بالنُّصح والمتابَعة، ولا أدلَّ على ذلك من كتابه لأبي موسى الأشـعري، والذي يعتبر دستورًا يَسْترشد به كلُّ مَن ولي هذه المهمةَ العظيمة.

ولولا خوفي من الإطالة، لعرجت على كتابه هذا، وذكرت تفاصيله، مستخلصًا من ذلك حرْصَه - رضي الله عنه - على إحقاق الحق، وإقامة العدل بين الناس؛ مما دفع القضاةَ إلى العمل على تنفيذ أحكام الله، دون أن تأخذهم في الله لومةُ لائم، مستندين في ذلك إلى الدستور العادل، الذي يخوِّل لهم التسويةَ بين الناس؛ فـ ((الناس سواسية كأسنان المشط))، ((لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)).
زِد على ذلك ما كان يتمتَّع به القضاة من سلطات تنفيذية كاملة، تحت ظِل الخلافة الإسلامية الراشدة.
الحسبة في عهد عمر

تَرِد بعض الإشارات التاريخية إلى أن الحِسبة نشأتْ منذ عهْد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد مارسها بنفسه، وفوَّضها أحيانًا إلى غيره، وتبعه من بعده الخلفاء الراشدون، ثم صارت بعد ذلك ولايةً من الولايات الدينية، ويرى بعضُ المؤرخين أنها نشأت في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، حيث وضع أُسسَها واختصاصاتِها، وكان يقوم بها بنفسه، ثم أوكلها إلى رجل، أطلق عليه لقب "المحتسب".

وكانت مهمة المحتسب تتمثل في: مراعاة أحكام الشَّرع، وإقامة الشعائر الدينية، والمحافظة عليها، والنظر في أرباب البهائم، ومراقبة مَن يتصدَّر لتفسير القرآن الكريم، والنظر في الآداب العامة، وفي البيوع الفاسدة في السوق، والموازين والمكاييل.
وبالنظر في طبيعة تلك المهام، ندرك أن وظيفة الحسبة ومهامَّ المحتسب أشمل وأعمُّ مما تقوم به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أيَّامنا هذه ، بل ويمكننا القول: أن الحسبة في الصدر الأول للإسلام هي نواة لنشأة ما يعرف الآن بالشؤون البلدية والقروية، وأن أمانة المدينة المنورة هي أول بلدية في الإسلام؛ وذلك للتشابُه بين بعض مهام المحتسب سابقًا، وما تضطلع به البلدية اليوم من مهام.
والله أعلم وأحكم .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ..
















التوصيات :

من خلال السياق السابق نستخلص عدد من التوصيات ولعل من أهمها :

1- الادارة تحتاج إلى الحكمة في تسيير أمورها ، فيجب على القائد أو المدير النظر في قراراته ، ومحاولة تغليب جانب الحكمة في القرارات .

2- لا بد للمدير من المتابعة المستمرة للإدارة ولمجريات العمل ولا يكفي أن يوكل المهام إلى الأعضاء دون متابعة سير العمل .


3- لابد للمدير من محاولة التطوير وتلمس طرق التغيير نحو الأفضل فالجمود قد يفوت كثير من الفرس في سبيل تحقيق الأهداف .

4- المدير الناجح هو من يتلمس حاجات الأفراد وفتح باب الحوار والتواصل المستمر مع الأفراد عبر وسائل الإتصالات المفختلفة .

5- على الإداري فتح باب الشورى في إتخاذ القرارات ووضع الأهداف ، مما يزيد من درجة الكفاءة في تحقيقها .

6- لابد للمدير من تفرس أفراده لمعرفة من يناسب لتحمل المسؤلية .

7- على المدير العدل بين أفراده لأن ذلك مدعاة للإستقرار ولإزالة المشكلات والتوترات التي قد تحدث في جو العمل .







المراجع :

1- الإدارة في الإسلام: رائد محمد منا العلي، الدار السعودية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1405هـ.
2- دراسات في النظم العربية والإسلامية: د. توفيق سلطان اليوزبكي، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة الموصل، طبعة ثانية، 1399هـ - 1979م.
3- عمر بن الخطاب: عبدالكريم الخطيب، دار الفكر العربي، طبعة أولى، 1978م.
4- عمر بن الخطاب: محمد صبيح، دار الثقافة العامة.
5- نظام الإدارة في الإسلام: د. القطب محمد القطب طباية، دار الفكر العربي، القاهرة، طبعة أولى، 1398هـ - 1978م.
7- النظام الإداري في عهد عمر بن الخطاب ، اسم المؤلف: الدكتور فاروق مجدلاوي
8 - تقريب التهذيب جزء 1 .
9 - تاريخ النظم والحضارة الإسلامية ، د/ فتحية النبراوي
جمع وإعداد / ياسر بن عبدالرحمن الدهري

هناك 3 تعليقات:

  1. youtube.com: vgodds roms - vgodds roms - videodl
    youtube.com: vgodds roms. Video games development, the 유튜브 best Video game development, the best videodl games development in the world, video septcasino game development, the best

    ردحذف
  2. Lucky Club Casino Site - Lucky Club Live
    Lucky Club Casino is a social casino and betting luckyclub.live site, providing live casino gambling, online sportsbook, poker games, and bingo games. Join today to

    ردحذف
  3. No deposit bonuses & casino bonuses - Dr.MCD
    There are no promo codes for the best no deposit bonuses & 제주도 출장샵 casino bonuses for 2021. Casino Promotions: Play 상주 출장샵 at Best 포천 출장마사지 Casino and 오산 출장안마 Get 하남 출장샵 a Free Spins!

    ردحذف